قلة هم الرجال الأفذاذ الذين رسخوا مكانتهم، كرجال دولة كبار، أبقوا على زعامتهم العشائرية الفاعلة، بل أن شيخ المشايخ والقاضي العشائري سعود القاضي، تميز بقدرته الكبيرة، على النهوض بدوره في كل مجال، دون أن يغلب جانب على الآخر، فكان بحق متفرداً ومتميزاً في عمله وانتمائه، ويعد مدرسة في الوطنية المستندة على الفهم العميق لقضايا الوطن، وإدراك حقيقي للبعد القومي للدولة الأردنية، وارتباطها العضوي مع قضايا الأمة المصيرية، لذا لعب هؤلاء الرجال أدواراً مؤثرة في الحراك السياسي والنضالي العربي، خاصة في الثورتين السورية والفلسطينية، وقدموا فيهما الشهداء والأموال، وتحملوا في سبيل ذلك المصاعب والتهديدات، وكانت بيوت الكثير منهم ملاذاً آمناً لعدد من الثوار العرب، وهذه أحداث موثقة بأكثر من مجال، وإن كثيرا من أشقائنا المؤرخين، يتجنبون إبراز دور الأردن، ورجالاته في كثير من الأحداث القومية. ينتمي الشيخ سعود القاضي إلى قبيلة بني خالد، وهي إحدى القبائل الأردنية الرئيسية شمال الأردن، وقد انتشرت مضاربها على رقعة واسعة، خاصة خلال مراحل التنقل خلف المراعي ومصادر المياه، فمن موقعها شرق سهول اربد وبمحاذاة مدينة الرمثا، حتى أعماق البادية الأردنية الشرقية، وصولاً إلى وادي السرحان، وتتحرك القبيلة شمالاً في سهل حوران حتى أطراف دمشق، وغرباً وصولاً إلى وسط هضبة الجولان، شاملاً وادي اليرموك والأغوار الشمالية، ويعود نسب قبيلة بني خالد إلى خزام، وتذكر المصادر التاريخية، أنهم ينحدرون من سلالة القائد المسلم خالد بن الوليد المخزومي، ولهذه القبيلة امتدادات في فلسطين والعراق وسوريا ولبنان والجزيرة العربية، ويذكر أيضاً أن أبناء هذه القبيلة كانوا حتى فترة قريبة، يذبحون في كل ربيع أول الذكور ولادة من أغنامهم، عند مقام رمزي من الحجارة، كأضحية عن روح جدهم خالد بن الوليد ( د محمد محمود العناقرة. رجالات من الأردن ). يعد الشيخ سعود القاضي من مواليد المرحلة القلقة في المنطقة، والتي رافقتها أحداث حارة، ذات نواتج تغييرية كبرى، فقد ولد في عام 1911، في بيت توارث الزعامة العشائرية، وتمرس بالقضاء العشائري، وقد ربي منذ صغره على نهج الفرسان، فتشرب صفات وقيم الشجاعة والشهامة والكرم، وأتقن القتال بالسيف واستخدام البندقية، وتعلق في طفولته بالأرض وبالمكان الأردني، حيث لازمه هذا العشق طيلة حياته، وعكس أفكاره ونهجه في الحياة. ونظراً للظروف التي عايشها أبناء البادية الأردنية، خاصة في تلك المرحلة من إهمال الدولة العثمانية، لم يكن التعليم متاحاً لأبناء البادية ومعظم القرى، لكنه تلقى تعليماً أولياً في كتّاب مسقط رأسه قرية حوشا، الواقعة في وسط المسافة بين مدينتي المفرق والرمثا، والتي تمتد أراضيها لتشتبك مع أراضي درعا السورية، حيث أخذت هذه القرية بالنمو السريع، خاصة بعد أن أستقر بها الشيخ سعود القاضي، الذي عمل على تشجيع أبناء عشيرته على الاستقرار، وزراعة الأرض إلى جانب عملهم التقليدي في تربية المواشي، وقد نجح في ذلك بشكل لافت. بعد أن أنهى دراسته في الكتّاب، أنخرط وهو في ذلك العمر الصغير، في حياته الرجال العملية، وأكمل دراسته في جامعة الحياة، التي قدمت له خبرات ومعارف واسعة، خاصة أنه نهل من والده الكثير، حيث كان « الشق « الخاص به مقصد الزاعمات العشائرية، وملتقى رجالات المنطقة، فيه تدار النقاشات والحوارات، حول الأوضاع الخاصة والعامة، وتحل فيه القضايا الصعبة، ويستجاب فيه لمطالب الناس، وتقضى حوائجهم داخل العشيرة وخارجها، كذلك أخذ الشيخ سعود من شقيقه الأكبر الشيخ منصور، الذي تسلم زعامة القبيلة خلفاً لوالده، فساند أخيه وساعده في إدارة شؤون القبيلة، وكان قريباً من الناس، مبادراً اتجاههم ساعياً إلى مساعدتهم قدر الإمكان، حيث عرف بذكائه الشديد، وقوة شخصيته، ومقدرته على لفت الانتباه، وقد تميز بحضور مؤثر، قادر على حل أعقد المشاكل بعدل، ويصلح بين الناس. بعد وفاة شقيقه الأكبر منصور شيخ مشايخ بني خالد، قرر شقيقاه الكبيران أن يتولى شقيقهم الأصغر سعود مسؤولية زعامة العشيرة، وبالتالي يصبح شيخ المشايخ، وذلك لثقتهم بذكائه وفطنته وقوة شخصيته، بالإضافة لما حصله من خبرات واسعة في شؤون هذا المجال، حيث حظي بمحبة وتقدير أبناء العشيرة، وتمتع بصلات قوية على امتداد الوطن وخارجه، وقد تسلم الشيخة عام 1942، فكرس حياته لخدمة أبناء منطقته، فعمل على مساعدة الضعفاء، وحل المشاكل والقضايا المعقدة، وكانت له جهود خيرة ومستمرة في إصلاح ذات البين، كما كان معاضداً لمؤسسات الحكم المحلي، التي كثيراً ما لجأت إليه، كما سهل معاملات أهل المنطقة لدى الوزارات والمؤسسات المختلفة، وقد وسع نشاطه هذا من شهرته، حيث متن علاقاته مع شيخ ووجهاء العشائر من شمال الوطن حتى جنوبه، كما وسع ووثق علاقاته برجالات الدولة، فكان مكرماً ومقدراً من قبل المسؤولين في أعلى المستويات. كانت للشيخ سعود القاضي جهود كبيرة ومشهودة في مجال القضاء العشائري، حيث قصده طلاب الحق من مختلف أرجاء الوطن، وقد ذاع صيته في القضاء، وتميز بتحريه العدل، وبتوازن أحكامه، حتى أصبح يعد حجة في القضاء، وكان يقوم بدور قاضي التمييز، في بعض الحالات التي يحتج بها أحد الخصوم على حكم قاضٍ عشائري آخر، ولم تقتصر جهوده على مجال محدد، فقد بذل جهوداً كبيرة من أجل إيصال الخدمات لقرى بني خالد، خاصة بناء المدارس للذكور والإناث، وشق الطرق وتعبيدها، وإيصال الكهرباء والمياه وخطوط الهاتف، لقد عمل على تنمية المنطقة بشكل أسهم في توطين أبناء المنطقة، وظهور قرى جاذبة تتمتع بالخدمات العصرية الكاملة، وقد وطد علاقة عشيرته بعشائر المنطقة الكبيرة كبني صخر والسرحان وبني حسن والعيسى والسردية وعشائر أهل الجبل. خاض الشيخ سعود القاضي انتخابات مجلس النواب عام 1954، وقد حقق فوزاً كبيراً بفضل إجماع العشيرة، التي أحبته وقدرت خدماته للمنطقة، وانتمائه العميق للأردن وإخلاصه لقيادته، فأصبح نائباً عن بدو الشمال، وقد استمر في مجلس النواب حتى عام 1963، عمل خلالها على تسليط الأضواء على مشاكل بدو الشمال، كما قام بدوره في مراقبة أداء الحكومات، وبسن التشريعات وتطويرها، كما جعله عمله البرلماني يصبح أكثر اطلاعاً على أحوال البلاد، والتحديات الكبيرة التي تواجهها داخلياً وخارجياً، واستمر خلال هذه الفترة ينهض بمسؤولية العشيرة، ويقوم بواجبه في القضاء العشائري. عاد الشيخ سعود القاضي إلى خوض انتخابات مجلس النواب من جديد عام 1967، حيث حقق نجاحاً مستحقاً أعاده إلى العمل البرلماني، وخلال هذه الفترة وقعت حرب حزيران – النكسة – التي خسر فيها العرب شبه جزيرة سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية. وقد متن الشيخ سعود علاقته مع عدد كبير من الشخصيات الوطنية، ومع كبار مسؤولي الدولة، واستمر في عمله الوطني والعشائري، حتى بعد خروجه من مجلس النواب، فقد تم اختياره عضواً في مجلس الأعيان الأردني عام 1979، ليواصل العطاء في سبيل خدمة بلده والمساعدة في تنميه مدنه وقراه، وكان مع رجالات تلك المرحلة صمام الأمان، في فترة مليئة بالأحداث المؤثرة محلياً وإقليمياً. للشيخ سعود عدد من الأبناء الذين أصبحوا من رجالات الوطن الأوفياء، وقد توفي منهم الشيخ تركي وغصاب ونواف والدكتور طراد والشيخ محمد شيخ مشايخ بني خالد. ومن أبنائه نايف القاضي و الدكتور حاكم القاضي، ومن أحفاده اللواء مازن تركي القاضي المدير السابق لمديرية الأمن العام. وقد بقي الشيخ سعود القاضي عضواً في مجلس الأعيان حتى وفاته عام 1987، ولم تغب ذكراه وذكره الطيب منذ ذلك التاريخ.