وَثَنِيَّات عَرَبِيّة؛ (القِيَانُ والغِنَاءُ) ..؟!
الجَرَادتان (الصوتُ والصدى) ..!!؟
(ألا يا قِيلُ وَيحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ # لَعَلّ اللهَ يُصبِحُنا غَمَاما)
(طقوس الاستمطار وانقطاع المطر..؟!)
(مُهداةٌ إلى الصديق الباحث تيسير خلف، الذي نشر الصور سابقاً)
____________________________
المنحوتات؛
هذه المنحوتات الحجرية، أو المجسّمات، وُجدت في منطقة السلمية قرب حماة، وتعود إلى الفترة ما بين القرنين الأول والثاني الميلاديين. وهما، كما يبدو من التماثيل، لمغنيتين، تحمل احداهما أرغولاً، والثانية طبلاً أو دفّاً.
وتمثال المرأتين على الجمل محفوظ في متحف كوبنهاجن في الدنمارك، أما التمثالان الآخران، فهما محفوظان في متحف دمشق الوطني.
أضع الملاحظات والتساؤلات التالية لمن هو مهتمّ؛
- هل يمكن لهذه التماثيل أن تكون ل(الجرادتان)، اللتان ورد ذكرهما في الأخبار والأدب العربيّ الوثنيّ قبل الإسلام..؟ (هناك كتاب صدر قبل سنوات للصديق العلّامة الدكتور ناصر الدين الأسد بعنوان (القيان والغناء) يحصر فيه ما ورد عن الجرادتين في الأدب العربي الجاهليّ).
- مع مراعاة أنّ خبر الجرادتين هو أسطورة عربية وثنيّة، بدليل نسبة الأخبار لأصل وجودهما إلى زمن عاد ولقمان، كما ورد في شعر لبيد، ثمّ استعارتهما ونسبتهما إلى صدر الاسلام (عبد الله بن جدعان)، هل يمكن أن تكون هذه التماثيل تعود إلى طقوس عبادة أقدم من الوثنيّة، سيّما إذا تذكّرنا أنّ أقدم المقطوعات الموسيقية المكتشفة في العالم هما؛ مقطوعة رأس شمرا في سورية، ومقطوعة نينوى في العراق، على التوالي..؟
- إنشاء أحد التماثيل على ظهر جمل يشير إلى الإنتقال، ولمسافات طويلة.. بمعنى ارتباطها بالسفر وطرق التجارة، والتجارة نفسها، وكذل عرب الخيام البدو في الصحراء.
- يلفت الانتباه تطابق التخت الموجود على ظهر الجمل شكلاً مع التخت الذي تجلسان عليه بدون جمل.
- شكل الرداء الطويل، مع طريقة ربط الحزامين، حول الوسط، يشير إلى شكل طقوسيّ دينيّ.
- إنّ تسمية العرب للمغنيّتين ب(الجرادتين)، وعلى الرغم من كلّ ماور في المعاجم، لا يعني أو يدل على شيئ، في بيئة الحياة العربية آنذاك. ما يعني أنّ الاسم والشكل والمضمون هي من خارج جغرافية شبه الجزيرة العربية، بل ربّما تكون صدى لمضمون أعمق، وهو طقوس ديانة قديمة، مرتبطة بالاستمطار وانقطاع المطر، اختفت، ولم يبق منها في ذاكرة العرب الوثنيين سوى اسم (الجرادتان).
- تلازم حديث المصادر العربية عن المغنيّتين كمثنّى بتعبير (الجرادتان)، وتكرار شكل تماثيل المغنيّتين في الشمال العربيّ السوريّ معاً، وليس بشكل منفرد، يدفع باتجاه التفكير في التماثيل على أنّها تماثيل لإمرأتين أكثر من مجرّد مغنيّتين مشهورتين.
فيما يلي بعض أشكال ورود ذكر الجرادتين في المصادر العربية؛
____________________________
أسطورة الجرادتين؛
(وجَرادَةُ اسمُ امرأَةٍ ذكروا أَنها غَنَّتْ رجالاً بعثهم عاد إِلى البيت يستسقون فأَلهتهم عن ذلك وإِياها عنى ابن مقبل بقوله:
سِحْراً كما سَحَرَتْ جَرادَةُ # شَرْبَها بِغُرورِ أَيامٍ ولَهْوِ ليالِ
والجَرادَتان مغنيتان للنعمان. وفي قصة أَبي رغال فغنّته الجرادَتان. وكان بمكة في الجاهلية قينتان يقال هما الجرادتان مشهورتان بحسن الصوت والغناء)
- وذكر المسعودي وابن عبد ربه، أن أول من غنى من النساء هما الجرادتان وكانتا قينتين لمعاوية بن بكر على عهد عاد، ومن غنائهما؛
ألا يا قيل وَيحَكَ قُمْ فَهَينم # لعلّ الله يُصبِحُنا غَمَاما
____________________________
مَثَلُ الجرادتين؛
(تَرَكْتُهُ تُغَنِّيهِ الْجَرَادَتَانِ؛ مثَلٌ يضرب لمن كان لاهياً في نعمة ودَعَة. والجرادتان: قَيْنَتَا معاوية بن بكر أَحَدِ العماليق، وإن عادا لما كَذَّبُوا هوداً عليه السلام توالَتْ عليهم ثلاثُ سنوات لم يروا فيها مطراً، فبعثوا من قومهم وَفْداً إلى مكة ليستسقوا لهم، ورأسوا عليهم قَيْلَ بن عنق ولُقَيْم بن هزال ولقمان بن عاد، وكان أهل مكة إذ ذاك العماليق وهم بني عَمْلِيق بن لاوذ بن سام، وكان سيدهم بمكة معاوية بن بكر، فلما قدموا نَزَلُوا عليه، لأنهم كانوا أَخْوَالَه وأصهاره، فأقاموا عنده شهراً، وكان يكرمهم والجرادتان تغنيانهم، فَنَسُوا قومهم شهراً، فقال معاوية: هَلَكَ أخوالي، ولو قلت لهؤلاء شيئاً ظنوا بي بخلا، فقال شعراً وألقاه إلى الجرادتين فأنشدتاه وهو:
ألا يا قَيْلُ وَيْحَكَ قم فَهَيْنِمْ * لعلَّ اللّه يَبْعَثُها غَمَاما
فَيَسْقِيَ أرضَ عادٍ إِنَّ عادا * قَدَ امْسَوْا لا يُبِينُونَ الكلاما
من العَطَش الشديدِ فليس تَرْجُو * لها الشيخَ الكبيرَ ولا الغُلاَما
وقد كانت نساؤُهُم بخيرٍ * فقد أَمْسَتْ نساؤهم أيامَى
وإن الوحش يأتِيهِمْ جهَاراً * ولا يَخْشَى لعادِىٍّ سِهَاما
وأنتم ههُناَ فيما اشتهيتم * نهارَكُمُ وليلكم التماما
فقبح وَفْدُكم من وفد قومٍ * ولا لُقُّوا التحيةَ والسلاما)
مختصر الأسطورة؛ (إِنَّ عَادًا قُحِطُوا فَبَعَثُوا وَافِدَهُمْ قَلِيلا فَنَزَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ شَهْرًا يَسْقِيهِ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهِ الْجَرَادَتَانِ ـ قَالَ سَالِمٌ: يَعْنِي الْقَيْنَتَيْنِ ، قَالَ: ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى جِبَالَ مهرة فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ آتِ لأَسِيرٍ فَأُفَادِيَهُ وَلا لِمَرِيضٍ فَأُدَاوِيَهُ فَاسْقِ عَبْدَكَ مَا أَنْتَ مُسْقِيهِ وَاسْقِ مَعَهُ مُعَاوِيَةَ بْنَ بَكْرٍ شَهْرًا ، وَيَشْكُرُ لَهُ الْخَمْرَ الَّتِي شَرِبَهَا عِنْدَهُ ، فَمَرَّتْ بِهِ سَحَابَاتٌ سُودٌ ، فَنُودِيَ مِنْهَا أَنِ اخْتَرِ السَّحَابَ ، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ لَسَحَابَةٌ سَوْدَاءُ قَالَ: فَنُودِيَ مِنْهَا: أَنْ خُذْهَا رَمَادًا رِمْدِدًا لا تَدَعْ مِنْ عَادٍ أَحَدًا ، قَالَ: قُلْتُ: فَبَلَغَنِي أَنَّهُ لَمْ يُرْسَلْ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّيحِ إِلَّا كَقَدْرِ مَا يَجْرِي فِي الْخَاتَمِ ، قَالَ: أَبُو وَائِلٍ: لَكَذَلِكَ بَلَغَنَا)
____________________________
وعن أصالة الموسيقى العربية يقول المستشرق البريطاني "هنري جورج فارمر" في كتابه (تاريخ الموسيقى العربية حتَّى القرن الثالث الميلادي):
"علينا ألا ننظر بعد الآن إلى جزيرة العرب نظرتنا إلى الفلوات، فهي على الضد من هذا-مركزٌ تجاري للعالم القديم والمسلمون الذين خرجوا منها ليستظهروا على المسيحية وليشيدوا إمبراطورية، ما كانوا إلا خلفاء لأولئك الذين تركوا تأثيراً عميقاً في مصائر الشرق ومستقبله في عصور التاريخ الأولى" ثمَّ تطرق إلى الحديث عن المدنية العربية فقال "إنها لم تنبعث من تلكم الفترة التي اكتنفتها دجنة وغموض، المعروفة بأيام الجاهلية، زمن أن كان السؤدد اليوناني والبيزنطي قد بلغ السماكين، بل ولم تبدأ بظهور الإسلام، فإن تاريخها يرجع إلى حقبة سابقة عليهما معاً" ثمَّ تطرق بإسهاب إلى نشوء الحضارات السامية، معتمداً في ذلك على التقنيات التي قام بها الباحثون في خرائب المدنيات السامية والتي قال عنها بأنها "أحدثت تغييرات عجيبة في آرائنا ومعلوماتنا عن تاريخ المدنية العالمية"
وتعرض إلى تاريخ الدول العربية القديمة فقال أن "أقدم مصدر لدينا الآن عن جزيرة العرب يعود تاريخه إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، حين صرنا نملك بعض كتابات مسمارية ورد فيها ذكر لبلاد عرفت بوقوعها في جزيرة العرب"
ثمَّ أشار إلى أولية الموسيقى العربية، فذكر أنه لم يصل إلينا شيء ذو بال، على الرغم من أن نقش "آشوربانيبال" الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع قبل الميلاد، يثبت أن العرب كانوا يعملون لسادتهم الآشوريين، حيث كانوا يمضون ساعاتهم في الغناء والموسيقى التي كان يطرب لها الآشوريون، فيطلبون المزيد منها، ثمَّ استطرد يقول "بأنه من الصعب جداً أن نفترض وجود مستوى معين واحد للحضارة الموسيقية عند كل من الآشوريين والفينيقيين والعبرانيين والعرب الذين جمعتهم أواصر تجارية وروابط سياسية" ثمَّ تحدث عن الآلات الموسيقية المعروفة لدى الشعوب السامية مثل "طبلوا" و"أبدو" البابليتان-الآشوريتان و"طبلا" و"نف" العبرانيتين، وعرفتا عند العرب بلفظتي "طبل" و"دف".
ويواصل؛
إن الموسيقى عند العرب لم تكن تعني ما عنته لدى الإغريق، حيث تضم هذه الكلمة في تضاعيفها، الشعر والرقص والفلسفة والبلاغة وفقه اللغة والرياضيات وإنما كانت الموسيقى في الشعر الجاهلي لا تعدو الترنّم في الشعر أما الآلات الموسيقية فما كان لها أثرها البارز في تاريخ الموسيقى العربية في العصر الجاهلي إذ كان عربي ذلك الزمان يؤثر سماع الغناء الصوتي على العزف الآلي ليتسنى له بذلك تذوق معاني الشعر أما الآلة الموسيقية فلا مهمة لها إلا مرافقة الغناء الصوتي والتمهيد له.
وهكذا فقد عرف العرب الآلات الموسيقية البسيطة وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير.
يقول أعشى ميمون يصف رنين عوده وطرب قينة؛
ومستجيب تخال الصنج يسمعه # إذا ترجع فيه القينة الفضل